يُعتبر التطوير المؤسسي كأحد أوجه التغيير الإداري من أهم التحديات التي تواجه المدراء، فمؤسساتنا تتغير بشكل مستمر، المتعاملين والموظفين يتغيرون من حيث تفضيلاتهم وإدراكاتهم واحتياجاتهم وتوقعاتهم، ولو بحثنا عن نقطة البداية في كل تغيير وتتبعناه سنصل إلى المدراء الذين أصبحوا يقومون بالدور الأكبر في هذا الإطار، لذلك على المدير الذي يبحث عن التميز والتفوق أن يفهم عميقاً معنى التطوير المؤسسي، ويدرك أبعاده وصفاته.
المثير في الأمر أن أهمية التغيير بالنسبة إلى المدراء ليست فكرة جديدة البتة، فالمفكرين القدماء تناولوا عملية التغيير وتعمقوا في معانيها وانقسموا في موقفهم منها إلى مدارس، فمنذ ما يقارب 2500 سنة قال المفكر الإغريقي باراميندس بأن التغيير غير ممكن، ولكن هرقليطس وفي تلك الحقبة الزمنية كان مقتنعاً بالعكس حيث نادى بأن التغيير ليس فقط ممكناً وإنما هو ضروري ولازم، حتى أننا لا يمكن أن لا نتغير، وهنا قال (لا يمكنك أن تسبح في نفس النهر مرتين) فعلى رغم بساطة هذا التعبير إلّا أنه يصف وبشكل واضح الاقتناع بأن التغيير أمر حتمي، وفي عام 1532م تناول نيكولو ميكافيلي في كتابه “الأمير” موضوع التغيير من زاويةً أخرى حيث أظهر التحديات التي ترافق إحداث التغيير والصعوبات التي تنشأ عند التنفيذ، وهذا ما لخّصه في عبارة (لا يوجد أصعب من أن تغير في ترتيب الأشياء)، ومن الواضح أن هذا الجدل ما زال قائماً حتى يومنا هذا فبعض المدراء يؤمنون بأهمية التغيير المؤسسي وفوائده، وبعضهم ما زال مقتنعاً بضرورة أداء العمل بنفس الطريقة دون تغيير.
التغيير هو أن تغيّر مرتين
لكي تكون مديراً ناجحاً في التغيير وإحداث الفرق، لا بد أن تفرّق بين أمرين، الأول بأن مؤسستك تتغير بشكل يومي ولكن في الغالب تغيرات بسيطة ومستمرة بحيث لا تشعر بها بشكل واضح، ولكنها اليوم مختلفة عن أمس وغداً ستكون مختلفة عن اليوم، أما الأمر الثاني والذي غالباً ما يتم إغفاله من قبل المدراء فهو تغيير الإدراك، وهو مختلف تماماً عن تغيير الواقع فأنت لا تستطيع فقط أن تطور في مؤسستك، ولكنك تستطيع أن تغير الطريقة التي تنظر بها إلى مؤسستك وهذا شيء آخر.
إن الاختلاف الرئيسي بين الأمرين هو أن تغيير واقع العمل يحدث بشكل مستمر ولكن تغيير الإدراك يتم بشكل مفاجئ وسريع حتى أنه لا يمكن أن يكون مستمراً، لتوضيح ذلك يمكننا التفكير في الصور الشائعة التي تتضمن أكثر من منظر في نفس الوقت، فعندما ننظر إليها للوهلة الأولى نرى منظراً معيناً ولكن عندما نمعن النظر يتبدى لنا فجأة منظراً أو شكل آخر، هذا يشبه إلى حد كبير النوع الثاني من التغيير وهو تغيير الإدراك حيث أننا وبلحظة غيّرنا إدراكنا عن الصورة ورأينا فيها شيئاً آخر على الرغم من أن الصورة كما هي لم تتغير ولم نجري عليها أي تغيير مادي.
على المدير الناجح أن يكون قادراً على إحداث كلا النوعين من التغيير، تغيير الواقع وتغيير الإدراك، فالمدير يستطيع أن يغيّر الواقع في وحدة عمله من خلال القيام بالكثير من الأعمال والمشاريع والمبادرات، ولكن عليه أيضاً أن يغيّر إدراكه عن مؤسسته، ليس فقط إدراكه هو وإنما إدراك الأطراف المعنية كافة لأنهم أيضاً يغيرون إدراكاتهم وفق قانون التغيير المفاجىء والسريع.
إن التغيير مرتين هو أمر هام، فتغيير الواقع والإدراك ضروريان للتعامل مع التحديات الإستراتيجية التي تواجه المؤسسات، فعلى سبيل المثال تساهم الإدارة العليا بشكل مباشر في وضع رؤية للجهة هي عبارة عن وصف مبسّط لما تود أن تكون عليه في المستقبل، ولكن كما ذكرنا أن العالم يتغير بشكل مستمر وبالتالي لكي تبقى هذه الرؤية صالحة وتعبّر تماماً عمّا توده المؤسسة فمن المنطقي أن يتم تحديث الرؤية المؤسسية باستمرار لتتناسب مع تلك التغييرات، وجميعنا يدرك أن من شأن ذلك تشتيت الجهود وانخفاض تحفيز الموظفين وفقدان البوصلة المؤسسية، فالتحدي هنا أن نكون قادرين على ثتبيت رؤية واستراتيجية المؤسسة في عالم متغير دون أن نحدث فجوة ما بين استراتيجية الجهة والواقع، لعل النظر إلى الاستراتيجية إلى أنها تغيير كبير للإدراك وليس للواقع فقط من شأنه أن يساعدنا على تخطي هذا التحدي. إن ضرورة التغيير مرتين تنطبق ليس فقط على مستوى المؤسسة والاستراتيجية، بل وحتى في أبسط الممارسات الإدارية، فمثلاً مسألة تأخر الموظف في القدوم إلى العمل، الهدف هنا أن ينتظم الموظف في الوصول في الوقت المحدد، ويمكنه لتحقيق هذا الهدف أن يقوم بعدة إجراءات كشراء منبه جديد أو تغيير مكان سكنه أو غير ذلك، ولكن هذا لا يكفي، فلا بد للموظف أن يقوم بالتغيير الثاني وهو أن يغيّر إدراكه عن التأخير كالاقتناع بأن الوصول باكراً سيمنحه وقتاً لشرب قهوة الصباح أو أنه سيمكّنه من العودة باكراً إلى البيت.
مقاربة جديدة للإبداع والابتكار
عند الحديث مع الرؤساء التنفيذيين أو المدراء العامين عن التغيير، كثيراً ما نصل مباشرةً إلى مفهومي الإبداع والابتكار، ومن الواضح وجود اختلاف وغموض حول هذين المفهومين عند البعض حيث يتم استخدامهما بدلالات مختلفة من قبل جهات عدة، وهناك من يعتبرهما وجهان لعملة واحدة، ولكنهما في الحقيقة مختلفان ومن الضروري وضع وصف واضح لكل منهما.
يتعلق الإبداع بتغيير الواقع، فتستطيع المؤسسة أن تبدع من خلال التغيير في أنظمة العمل من عمليات وأنشطة أو في الخدمات التي تقدمها، كأن تقوم مؤسسة بزيادة عدد ساعات العمل اليومية للاستجابة لتحدي معين، فهذا العمل يتطلب تغيير الواقع ولا يتطلب تغيير الإدراك وهذا أمر هام يجب التنبه له. أما الابتكار فإنه مفاجئ ويتطلب التفكير العميق ويتحقق بتغيير الإدراك، وهناك الكثير من الأمثلة على ابتكارات خلّاقة كابتكار فأرة الحاسوب من قبل شركة زيروكس حيث غيّر هذا الابتكار من إدراكنا لطريقة إدخال المعلومات إلى جهاز الحاسوب بواسطة لوحة المفاتيح.
والجدير ذكره أن الإبداع يمكن تحقيقه بشكل منفصل عن الابتكار، وكذلك الابتكار يمكن له أن يأتي منفرداً دون أن يصاحبه إبداع، ففي مثال شركة زيروكس كانت فأرة الحاسوب ابتكاراً فقط ولم يرافقها إبداع فلم تتمكن الشركة من تحقيق السبق في تصنيع فأرة الحاسوب وإنما سبقتها شركات أخرى مبدعة إلى ذلك.
إن طموحك كمدير يجب أن ينصبّ دائماً على الجمع ما بين الابتكار والإبداع، فالإبداع يكون عندما تدخل شيئاً جديداً على نظام في مؤسستك، ويكون الابتكار عندما تفكر في نظام جديد، يتعلق الإبداع بعمل الأشياء أما الابتكار فيتعلق بالتفكير في الأشياء، الإبداع يحترم القواعد أما الابتكار فيفكر في قواعد جديدة. وهنا أصبح واضحاً أن كل من الإبداع والابتكار وإن كانا يرتبطان بأمر واحد وهو التغيير إلا أنهما يختلفان في جميع الأمور الأخرى، ومن هذه الأمور أن الإبداع هو تغيير الواقع أما الابتكار فهو تغيير الإدراك.
الابتكار ما نحتاجه الآن
بما أن التغيير يتألف من مرحلتين هما الابتكار والإبداع، نلاحظ أن الإبداع منتشر بشكل واسع في المؤسسات وأن الحاجة هي إلى الابتكار، فهو ضروري لهذه المرحلة خصوصاً مع التوجهات الشاملة في دولة الإمارات نحو الابتكار في العمل، كما أن الموظفون المبتكرون عادةً ما يشعرون بالرضا والسعادة كونهم قادرين على امتلاك زمام التغيير في حياتهم المهنية.
من المهم أن نعرف أن الأفكار المبتكرة نادراً ما تكون جيدة من المرة الأولى، ويجب علينا التفريق بين الفكرة الجديدة والفكرة الجيدة، ومن هنا لا يوجد ما يسمى بالأفكار السيئة في قاموس الإبداع بل هناك أفكار جديدة. ولتوضيح ذلك نسوق ما طرحه المفكر الألماني إيمانويل كانط عام 1781م في كتابه “نقد العقل الخالص” عن أن الطائر عندما يكون في السماء وتواجهه رياح قوية فإنه يمقتها ويتمنى لو أنها لم تكن موجودة، وهو لا يدرك أن هذه الرياح هي نفسها السبب الذي يمكنه من الطيران، وبالتالي فإن الأفكار الجديدة وإن لم تكن جيدة فإننا يجب أن نعتبرها سبب للوصول إلى أفكار جيدة. عندما اخترع توماس أديسون المصباح الكهربائي كان أول من ابتكر فكرة توليد الضوء بدون الحاجة إلى حرق مواد أخرى كالشمع والخشب والفحم الأمر الذي كان سائداً قبل ذلك، إن فكرته في البداية كانت جديدة ولكنها ليست جيدة، فقد قال في مذكراته أنه وجد حوالي خمسمائة طريقة للفشل في توليد الضوء بدون حرق مواد أخرى، وهذا دليل واضح على أن الأفكار الجديدة عادةً ما تكون أفكار غير جيدة، وكذلك دليل على أن أفضل طريقة للحصول على فكرة جيدة هي أن تحصل على كثير من الأفكار.
أطلق أحد المفكرين منذ سنين طويل فكرة هامة وهي أنه علينا أن نعتاد التغيير إذا ما أردنا أن نكون مدراء ناجحين، وهذه الفكرة صحيحة في يومنا هذا وأساسية من أجل التغيير نحو الأفضل، إذا أراد الشخص الذي يقود منطاد أن ينحرف به نحو اليسار فعليه أن يخضع للرياح القادمة من جهة اليمين وأن يستفيد منها في توجيه منطاده نحو وجهته المرغوبة.
الكثير من الأبحاث تم إنجازها حول طريقة عمل دماغ الإنسان، وكُتب الكثير عن الدماغ الأيسر والدماغ الأيمن وأن أحدهما يقوم بالأعمال التي تتطلب تخيلاً وتهدف إلى إطلاق أفكار جديدة ولكنه في نفس الوقت غير قادر على الحكم فيما إذا كانت تلك الأفكار جيدة أم لا، وعلى العكس فإن الدماغ الآخر قادر على تحليل وتبيان فوائد هذه الأفكار وكيف يمكن أن يتم تنفيذها بنجاح، ومن المفيد الفصل بين عمل هذين الدماغين إذا ما أردنا الحصول على أفضل النتائج. وهذه الحالة تكون واضحة عادة ً في الاجتماعات حيث يكون بعض الحضور في مزاج تحليلي وآخرين في مزاج إطلاق الأحكام ولا يلتزمون بقواعد التفكير المثمر، وكثيراً ما نستدل على ذلك عند سماع عبارة “نعم ولكن” حيث يستخدمها البعض عند سماعهم لأفكار جديدة، من الطبيعي أن لا تكون الأفكار الجديدة أفكار جيدة كما رأينا، وما يجب علينا فعله هو إعطاء هذه الأفكار الفرصة لكي تتحول إلى أفكار جيدة. فلو لم تؤمن وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) بعدم جدوى “نعم ولكن” لما تمكنت من ابتكار تقنية مذهلة لهبوط مركبتها على سطح المريخ من خلال تغليفها بوسائد هوائية بحيث يتم إسقاط المركبة على سطح المريخ فتحميها تلك الوسائد من صدمة السقوط ومن ثم تتدرج كالكرة حتى تتوقف وتبدأ عملها، لقد ساعدت هذه الفكرة على التقليل من كميات الوقود والأوزان المطلوبة في عملية الهبوط وقللت إلى حد كبير من تعقيد هذه العملية وحققت نجاحاً باهراً، ولك أن تتخيل ما كان سيكون مصير هذه الفكرة لو كان المجال مفتوحاً لانتقادها عندما تم طرحها للمرة الأولى في أحد اجتماعات ناسا.
عادةً ما تغلب على المدير سمة معينة في التفكير كالتفكير التخيلي أو التفكير التحليلي العملي، وهنا فإن للعمل الجماعي أهمية خاصة ليتمكن هذا المدير من النجاح والتميز، لأنه يمكن بالجمع بين نوعي التفكير الحصول على أفضل نتيجة، والأمثلة على نجاح هذا الأسلوب كثيرة فالعديد من الشركات العالمية تحمل اسمين كرولز- رويس وهيوليت – باكارد قد تأسست ونجحت بشراكة شخصين غالباً يتمتعان بنوعين مختلفين من التفكير الأمر الذي ساعدهم على النجاح والوصول إلى العالمية.
ثلاثة أنواع من الأفكار الجديدة
بما أننا تطرقنا إلى الأفكار الجديدة وأهميتها على الصعيد المؤسسي بالنسبة للمدراء، سيكون من المفيد أن نوضح الفرق بين ثلاثة أنواع رئيسية من الأفكار الجديدة وهي:
- الاكتشاف: وهي أن تشرح الفكرة الجديدة شيئاً موجوداً أصلاً ولكنه لم يكن معلوماً، كما فعل إسحاق نيوتن عندما اكتشف قانون الجاذبية فهذا القانون موجود منذ زمن بعيد ولكنه لم يكن معروفاً، كذلك فعل نيكولاس كوبرنيكوس عندما اكتشف دوران الأرض حول الشمس، وغالباً ما تكون الاكتشافات مرتبطة بالعلوم بمختلف أصنافها، فعالم الآثار جيان فرانسوا شامبليون اكتشف سر الكتابة الفرعونية عندما قام بالربط ما بين الرموز والصور، وقد سبق باقي الباحثين لأنهم كانوا مقتنعين بأن الكتابات القديمة تستخدم إما الرموز أو الصور وليس الاثنين معاً.
- التكوين: ويكون عندما تأتي الفكرة لتنشىء شيئاً جديداً لم يكن موجوداً من قبل كوالت ديزني عندما ابتدع شخصية ميكي ماوس أو عندما جاء غوستاف إيفل بفكرة بناء برج إيفل في فرنسا، وما يميّز هذه الأفكار أنها ليست ضرورية ويمكن التعايش مع عدم وجودها، وغالبيتها تكون في مجالات الفنون.
- الاختراع: وهي الأفكار التي تأتي بمفاهيم جديدة كلياً غير موجودة سابقاً ولكنها ضرورية وخصوصاً في عالم الأعمال، تهتم المؤسسات بشكل عام بالاكتشاف والتكوين ولكن بشكل محدود، على عكس الاختراعات حيث أنها محور الاهتمام الأساسي للمؤسسات من خلال الإتيان بأفكار جديدة ستكون ضرورية مستقبلاً، أو ما يشار إليه في لغة الأعمال بالمجيء بأفكار ضرورية وهامة لأصحاب المصلحة قبل المنافسين. وتتوائم هذه الأهمية للاختراع مع ما ذكرناه سابقاً عن أهمية الإدراك كثاني مرحلة في عملية التغيير والتي هي مرتبطة بالابتكار.
لم يعد الابتكار ترفاً في دولة الإمارات العربية المتحدة، خصوصاً بعد إطلاق الحكومة عام 2015م عاماً للابتكار، وبعد إدخال هذا المفهوم في مستويات الحوكمة في المؤسسات، وكذلك في منهجيات التميز والتطوير. لذلك فإن مدير المستقبل هو من سيكون قادراً على التسلح بالتغيير، فيغيّر في واقع مؤسسته وفي إدارك الأطراف المعنية من خلال الإبداع والابتكار.